جريمة 2m : بداية القصة.

لا يختلف دور الإعلام الموجَّه في الدول الديمقراطية عن دور الدعاية (البروباغاندا) في الدول الشمولية والديكتاتورية، وهكذا تصير وسائل الإعلام أدوات قهر وعنف رمزي، تسخَّر بمكر ودهاء وإلحاح لصنع الرأي العام، أو لتوجيهه، أو لتغييره، بما يخدم مصلحة القائمين على الأمر، أو الذين تخدم مصلحتُهم مصلحةَ القائمين على الأمر. ولله در هربرت شيلر (Herbert Schiller) الذي فضح تلك الخديعة القذرة في كتابه "المتلاعبون بالعقول" (The Mind Managers)، حيث فنّد الأساطير الكبرى التي يروّج لها "الإعلام الديمقراطي"، من قبيل أسطورة الحياد الإعلامي وأسطورة التعددية الإعلامية وأسطورة الاختيار الشخصي الحر... مبرهنا على أن الأمر لا يعدو كونه تضليلا إعلاميا، وغسيلا للأدمغة، قصدُه التحكم في الرأي العام، مما ينتج عنه وعي معلَّب تحت الطلب، ورهن الإشارة.
ما قلناه أعلاه ينسحب بلا مماراة على القناة المغربية الثانية 2M منذ أن أسستها مجموعة أونا ONA المتنفذة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. ولأنا لسنا بصدد جرد الأدلة على ذلك، إذ لا يحتاج النهار إلى دليل، كما قال أبو الطيب المتنبي، فإننا سنقصر الحديث على القنبلة التي أقدمت هذه القناة على تفجيرها في وجه المجتمع المغربي قبل أيام، وذلك حين بثت تقريرا من إنجاز عبد الرحيم بوحديوي، يتهم الشيخ عبد الله نهاري بهدر دم رئيس تحرير صحيفة "الأحداث المغربية" الصحفي مختار الغزيوي، بكثير من التجييش العاطفي، والمكر الإعلامي، والتحريض الموجَّه المنحاز، مع التضليل والتعمية.
بدأت القصة المفجَّرة ببساطة كالآتي:
- صحفي "الأحداث المغربية" مختار الغزيوي يصرح لقناة "الميادين" اللبنانية بدعوته إلى إلغاء الفصل 490 من الدستور، وهو الفصل الذي يعاقب على كل معاشرة جنسية خارج إطار الزوجية، معتبرا ذلك انتهاكا من المجتمع لحرية فردية. وقد بلغ به الحماس في الدفاع عن أطروحته تلك أنه لم ير بأسا من ممارسة أمه وأخته وبنته لذلك "الحق الحميمي" كما أسماه.
- الشيخ عبد الله نهاري ينتقد بشدة تصريحات الغزيوي، معتبرا أن ذلك ينم عن دياثة وعدم غيرة، وعاملا على تذكيره والسامعين ببشاعته الخلقية، وبحكمه في الإسلام، مستدلا بما اعتبره حديثا شريفا: "اقتلوا من لا غيرة له"، مبديا شفقته عليه، وراجيا أن يكون له أسوة حسنة في ذلك الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم طالبا منه أن يأذن له في الزنا، غير أنه لما أدرك أنه مفسدة، انقلب وليس شيء أبغض إلى قلبه من الزنا. خاتما موعظته بدعوة أم الغزيوي نفسها إلى التدخل لبيان موقفها مما ارتضاه لها ابنها على الملإ.
وشريطا المداخلتين معا لا زالا منشورين على اليوتوب وثيقة حية.
هذا هو إذن الترتيب الزمني الثنائي البسيط للقصة منذ بدايتها، وأية تغطية إعلامية نزيهة، هدفها خدمة المواطن بوضعه أولا في إطار الخبر، وبإمداده ثانيا بالحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة، عليها أن تنقل الحادثة بتسلسلها الزمني، الذي هو أساس تسلسلها السببي؛ إذ لا يجادل أحد في أنه لولا مداخلة الغزيوي السابقة ما كان لكلمة الشيخ نهاري اللاحقة أن تكون.
غير أن ما وقع هو أن 2M ستلتقط هذه الفرصة لتصفي حساباتها مع خصومها الإسلاميين بطريقتها الخاصة، فتعد تقريرا محبوكا حبكة محكمة للتلاعب بعقول المشاهدين، بعيدا كل البعد عن نقل الحقيقة كما هي، ومتحيزا تحيزا واضحا إلى أحد خصمي القضية (الغزيوي)، بحكم العلاقة الحميمية التي تربط القناة بصحيفته "الأحداث"، وذلك في خرق فاضح لما يقتضيه ميثاق شرف المهنة، وللموضوعية والحياد، وفي احتقار خفي لنباهة المشاهدين.
ولأكون مختصرا، سأقف عند مواطن تلك الحبكة الداهية، وذلك التحيز السافر، في النقط الآتية:
- بدأت 2M تقريرها القنبلة بمقطع معزول من مداخلة الشيخ نهاري، وأردفه المذيع بعبارة "هكذا بدأت الحكاية". وهذا هو رأس التعمية الإعلامية المقيتة. إذ الكل يعلم أن الحكاية إنما بدأت هنالك في قناة "الميادين"، وليس في ذاك البيت الفقير الذي بدا فيه الشيخ يلقي موعظته، والكل يعلم أن البداية كانت بتصريحات الغزيوي المستفزة لمشاعر الإنسانية عامة، والمسلمين خاصة، والمغاربة بصفة أخص، وليس بتدخل الشيخ نهاري الذي هو قول على قول، وليس قولا من فراغ.
- التموقف السلبي من أحد طرفي القضية، وذلك بوصف الشيخ نهاري بما يجيش المشاهدين ضده، رغم أنه يتنافى ومبدأ الحياد الصحفي، إذ يبدو أن تحقيق المكاسب مُغرٍ بالتنازل عن المبادئ، إن كان ثمة أصلا مبادئ غير مبدإ المكاسب. وهكذا لم يجد صاحب التقرير حرجا في فضح انحيازه، بوصف الشيخ – على لسان "البعض"، على طريقة أكل الثوم بفم الآخرين – بأنه "يدلي بتصريحات متطرفة"، رغم أن تاريخ الداعية شاهد على اعتداله، ووسطيته، وغيرته الحارة المتأججة على وطن لا يريد أن يترك أمر قيادة سفينته لمن بالتأكيد سيغرقه. والدليل على ذلك أن أيا من دروسه على امتداد عشرات السنين لم توصف بالتطرف، باستثناء هذه الكلمة التي هي محل النظر.
- التجييش العاطفي والشحن الدوغمائي للمشاهدين، بما يشبه قرع طبول الحرب، استعدادا للمواجهة، حيث استهل التقرير بعبارة المذيع: "حالة من الصدمة والاستغراب تسود وسط الصحافيين"، تلاه استضافة القناة ثلاث شخصيات، كلها شجبت واستنكرت وجيشت جهات أخرى: فنور الدين مفتاح عن فيدرالية الناشرين جيّش المخزن حاثا: "على السلطات العمومية أن تسائل نهاري"، وعبد الله البقالي عن النقابة الوطنية للصحافة جيش نقابته من خلفه: "نحن في النقابة كجسم صحافي ننتفض ونرتعش لهذه التهديدات، ونؤكد تضامننا المطلق واللامشروط..."! ومحمد البريني، مدير تحرير "الأحداث"، جيّش المجتمع المغربي كافة، لأن الأمر – حسب تعبيره – لا يهم الجريدة وحدها، ولكنه يهم المجتمع المغربي المعروف باعتداله ووسطيته. (وهنا ديماغوجية غير ذكية، لأن الاعتدال والوسطية يرفضان بشدة كل تطرف، ومنه تطرف صحفيّه في الدعوة إلى الحرية الجنسية، والذي هو سبب كل هذه الضجة).
- تضليل المشاهدين بمحو أي أثر لدعوة الغزيوي التي أوقدت الفتنة النائمة، أي مناداته بـ"الحرية الجنسية"، وفعل الرجل والمرأة في جسديهما بإرادتهما ما يشاءان، ولاسيما المقطع الذي قبل فيه بجرأة لا يحسده عليها أحدٌ أن تمارس قريباته الحميمات: الأم والأخت والبنت، تلك الحرية. وهكذا، وعلى امتداد تقريرين إخباريين بلغت مدتهما 7 دقائق كاملة، لم يظهر أي أثر لمقابلة الغزيوي مع قناة الميادين، وردد صحفيو القناة عبارة "الحرية الفردية" مرات ومرات، ولم تكن لهم الجرأة في التصريح بأن دعوة الغزيوي التي هي محور القضية، كانت إلى "الحرية الجنسية" خاصة، بل الأدهى والأنكى أن التقرير بُدئ بمقطع من كلام الشيخ نهاري، تلته عبارة "هكذا بدأت الحكاية"! يا لها من وقاحة إعلامية ترتقي إلى درجة الجريمة.
- الانحياز المطلق إلى أحد طرفي القضية، أي الصحفي الغزيوي، والتهميش المطلق للطرف الآخر، أي الشيخ نهاري، بحيث إن كل الذين استضافتهم القناة في تقريريها الأول والثاني كان موقفهم إلى جانب الغزيوي، ولا أدري أطلعوا على حيثيات النازلة أم لا، ولم تستضف القناة أيا من الجهات التي تضامنت مع الشيخ، واعتبرته ضحية تلفيق وتصفية حسابات، وحملت بشدة على دعوة الغزيوي. وهكذا حضر الطرف الأول في كلا التقريرين الإخباريين بكل ثقله، أي بنسبة 100 في المائة، بينما "حضر" الطرف الآخر بنسبة 0 في المائة، أي غياب، بل تغييب كليّ!! ولو أن القناة تنزهت عن "ذاتها" – ومن الغريب أن تكون لقناة وطنية مدفوعة التكاليف من جيوب المواطنين ذات مستقلة عن المجتمع الذي يمولها – واتصلت بالشيخ نهاري المعني الرئيس، لما تفجرت القنبلة من أساسها، لأن الشيخ أنكر حين استدعي أمام الضابطة القضائية إصدار الفتوى إنكارا تاما، مما معناه أن الزوبعة مصطنعة بمكر لتحقيق مآرب أخرى غير مأرب المعرفة والحقيقة من أجل بناء هذا الوطن، مستغلة في ذلك بتر السياق، وتعمية التفاصيل، وتأويل التداول.
معنى ما سبق أن المهنية كانت تقتضي من 2M :
- وصف الحادثة منذ بدايتها الفعلية وصفا كرونولوجيا موضوعيا.
- تقديم مقاطع مهمة من كلا الشريطين المعنيين بأمانة، وبلا إعادة مونطاج.
- ربط الاتصال بطرفي القضية معا، وبغلاف زمني متساو، للتأكد من صحة الشريطين شكلا ومضمونا أولا، ولاستجلاء رأييهما بمزيد من التوضيح والبيان ثانيا، وللدفاع عن أطروحتيهما ومناقشتهما فيهما ثالثا، وأخيرا لترك الفرصة للمشاهدين لتكوين رأي مستقل هو خلاصة ما يصل إليه كل واحد بناء على المعطيات التي شاهدها، والحجج التي سمعها.
- التخلي عن لغة التجييش، وخطاب الشحن.
بدلا من كل ذلك، أبت 2M إلا أن تسير قدما إلى غايتها اللامهنية مغمضة العينين، كيف لا وهي التي ترى نفسها قلعة محصنة رغم كل الاحتجاجات والتذمرات الشعبية التي بلغت أوجها بتنظيم وقفات احتجاجية ضدها، بل وبمقاطعة مشاهدتها، ما دامت مؤسسة مؤدلجة إقصائية تزييفية... ومحمية، كمحميي فرنسا إبان الاستعمار، وتلك هي المشكلة!

» القصة جميلة جدا و مؤثرة أقراها بتمعن
» إن الله غفور رحيم ، بداية من الصفر إلى نتيجة '' أدخل وشوف ''